منزلة الطاعة والعبادة في مكة

شارك المادة :

منزلة الطاعة والعبادة في مكة المكرمة

أولًا: مقصود الله الأعظم في هذه البلدة المباركة:

قال الفضيل بن عياض: وُضِعَت مكةُ للعبادة والتوبة والحجّ والعمرة والزّهادة وأعمال الآخرة. (محاضرات الأدباء 2/481).

وقال ابن الضياء المكي: إنّه بلدُ عبادةٍ لا بلدُ رفاهة، ومكانُ اجتهادٍ لا مكان راحة، ومحلّ تيقّظٍ وفكرةٍ لا محلّ سهوٍ وغفلة. (البحر العميق 1/142).

وقال صديق حسن خان: وضعه الله موضعًا للطاعات والعبادات، وقبلةً للصلاة ومقصدًا للحج والعمرة، ومكانًا للطواف، تزداد فيه الخيرات وثواب الحسنات وأجر الطاعات. 

(فتح البيان 2/288).

وقال شكيب أرسلان: جعل الله مكة مكانًا لعبادته تعالى لا غير. (الارتسامات اللطاف 49)

ثانيًا: مقر الإيمان ومجمعه.

مكة المكرمة والمدينة النبوية هما مأرز الإيمان في آخر الزمان فمنهما انطلق، وإليهما يعود،

فعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

(إن الإسلام بدأ غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ، وهو يَأْرِزُ بين المسجدين، كما تَأْرِزُ الحيّة في جحرها)

                                                                                                                                                                                                                             (صحيح مسلم 146)

ومعنى يأرز: ينضم ويجتمع.

في هذا الحديث إشارة إلى أن أرض مكة أرض عبادة، ولا يمكن فهم هذه الإشارة إلَّا إذا علمنا ارتباط الإيمان بالعمل، فالإيمان يوجد حيث توجد العبادة،

وقد قال تعالى:

{وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ}

                                                                                                                                                                                                                               [النور: 47]

فنفى الإيمان عمن تولى عن العمل وإن كان قد أتى بالقول.

ومن الممتنع أن يكون الرجل مؤمنًا إيمانًا ثابتًا في قلبه بأن الله فرض عليه الصلاة والزكاة والصيام والحج، ويعيش دهره لا يسجد لله سجدة ولا يصوم رمضان ولا يؤدّي لله زكاة ماله، ولا يحج لله بيته.

 هذا ممتنع، ولا يصدر إلا عن نفاق في القلب وزندقة، لا عن إيمان صحيح.

فإذا تقرر لدينا أن الإيمان لا ينفك عن العمل الصالح؛ فإن أروز الإيمان إلى مكة والمدينة أو الحجاز عمومًا؛ ماذاك إلا لقيام العبادة، ولا يعود الدين غريبًا إلا باندثار معالمه ومظاهره من العبادات الظاهرة والباطنة، ومن هنا يتبين لنا سر أروز الإيمان إلى مكة والمدينة.

وفي حديث أروز الإسلام رُبط أروزه بالمسجدين؛ والمساجد دور العبادة، كأنّ في ذلك إشارة أن الإيمان باقٍ ما بقيت العبادة بهما.

ويزيد الإشارة قوة؛ أن مكة ستخرب في آخر الزمان، وأنها لن تعمر بعدها، لأنها لا تعمر إلا بالعبادة، كما هو ملاحظ في هذه الآثار:

عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

(لا تقوم الساعة حتى لا يُحَجَّ البيت).

                                                                                                                                                                                                   ابن حبان (6750)، والحاكم (8397).

وعن علي بن أبي طالب قال: (استكثروا من الطواف بهذا البيت قبل أن يحال بينكم وبينه، فكأني أنظر إليه حبشيًا أُصيلع أُصيمع قائمًا عليها يهدمها بمَسْحاته) مصنف عبد الرزاق (5/ 137).

وعن عبد الله بن عمرو، قال: (إنّ من آخر أمر الكعبة أن الحبشَ يغزون البيتَ، فيتوجّه المسلمون نحوهم، فيبعث الله عليهم ريحًا أثرها شرقية، فلا يدع الله عبدًا في قلبه مثقال ذرّة من تقًى إلَّا قبضته، حتى إذا فرغوا من خيارهم بقي عجاج من الناس لا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر، وعمد كلّ حي إلى ما كان يعبد آباؤهم من الأوثان فيعبده، حتى يتسافدوا في الطرق كما تتسافد البهائم، فتقوم عليهم الساعة، فمن أنبأك عن شيء بعد هذا فلا علم له). الحاكم (8410).

وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(استمتعوا من هذا البيت؛ فإنه قد هدم مرتين، ويرفع في الثالثة).

                                                                                                                                                                                                         ابن حبان (1072)، والحاكم (1610).

والمراد من الاستمتاع به: إكثار الطواف والحج والاعتمار والاعتكاف ودوام النظر إليه.

النتيجة: مكة أرَزَ إليها الإيمان حين عمرت بالعبادة، فإذا ترك أهلها العمل خربت.

ثالثًا: مضاعفة الحسنات:

خلق اللهُ الكونَ، وجعل فيه أزمنةً وأمكنةً تفضلُ بعضها بعضًا في ثواب العبادة فيها، فضلاً ومنّةً منه سبحانه، فهي بمثابة مواسم الأرباح في التجارة.

أ. مضاعفة الأعمال الصالحة بمكة.

اتفق العلماءُ على أن الأعمالَ الصالحةَ بمكةَ مضاعفةٌ حسناتُها، ولم يحك من أقوال السلف؛ من الصحابة والتابعين وأئمة المذاهب ومن في طبقتهم ما يخالف ذلك.

وللعلماء رأيان في هذه المضاعفة:

الرأي الأول: إطلاق المضاعفة من غير تحديد.

الأدلة:

1- الأحاديث الواردة في مضاعفة أجر بعض العبادات في مكة:

الأحاديث الصريحة الورادة في هذه المسألة ضعيفة ولا تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.

2- أقوال الصحابة والتابعين:

قال مجاهد: رأيت عبد الله بن عمرو بن العاص بعرفة, ومنزله في الحلّ, ومصلاه في الحرم, فقيل له: لم تفعل هذا؟ فقال: (لأنّ العمل فيه أفضل، والخطيئة فيه أعظم). مصنف عبد الرزاق (5/ 27).

وفي هذا الفعل من الصحابي الجليل عبد الله بن عمرو بن العاص القريب من فعله صلى الله عليه وسلم في الحديبية، وتعليله بأن العمل - عمومًا - فيه أفضل= دليلٌ على أن العبادة في أرض الحرم لها مزيةٌ وفضل، وأن حسناتها مضاعفة، ويبتدئ هذا الفضل من حدوده، وأن حدوده من أي الجهات سواء في مضاعفة الحسنات.

وقد ورد عن مجاهد بن جبر قوله: "تُضاعف السيئات بمكة كما تُضاعف الحسنات". الكشف والبيان عن تفسير القرآن (7/ 17).

وهذا نصٌّ صريح منه بتضاعف الحسنات، وهو الراوي عن عبد الله بن عمرو بن العاص الأثر السابق.

3- القياس:

ومن العلماء من قاس المضاعفة على الصلاة، قال النووي: (قد سبق أن الصلوات يتضاعف الأجر فيها في مكة وكذا سائر أنواع الطاعات). 

الإيضاح في مناسك الحج والعمرة (ص 441).

الرأي الثاني: التحديد بمائة ألف في كل طاعة.

أدلة الرأي الثاني القائل بتحديد مضاعفة الطاعات بمائة ألف كالصلاة، خلاصة ما يقال عنها: الأحاديث الصريحة الورادة في هذه المسألة ضعيفة ولا تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وأقواها: ما رُوي من حديث ابن عباس، أنه سئل صلى الله عليه وسلم عن حسنات الحرم، فقال: (بكل حسنة مائة ألف حسنة).

أخرجه الحاكم (1692)، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، وتعقبه الذهبي بقوله: ليس بصحيح، أخشى أن يكون كذباً، وعيسى: قال أبو حاتم: منكر الحديث.

قال الفاسي: لم يتفرد به عيسى بن سوادة؛ لأننا رويناه في الأربعين المختارة لخطيب مكة الحافظ ابن مسدي وغيرها من حديث سفيان بن عيينة عن إسماعيل بن أبي خالد، الذي رواه عنه ابن سوادة، وقال ابن مسدي: هذا حديث حسن غريب. انظر: شفاء الغرام (1/ 111)،

وقال الهيتمي في الزواجر (١‏/٢٠٥): صحيح أو حسن.

وللحديث طرق أخرى كلها ضعيفة.

قال الحسن البصري: (وكل حسنة فعلها العبدُ في الحرم بمئة ألف حسنة بغيرها، وأعمال البرّ فيها، كلّ واحدة منها بمئة ألف). فضائل مكة والسكن فيها (ص 21).

ومضة:

المغبون من حُرم الطاعة والعبادة في أفضل أمكنتها وأوقاتها، والموفَّق من اشتغل بأحب الأعمال إلى الله في أحب البقاع وأشرفها، وترك سفاسف الأمور، وترفَّع عنها.

قال الغزالي: "فإن الله سبحانه إذا أحب عبدا استعمله في الأوقات الفاضلة بفواضل الأعمال، وإذا مقته استعمله في الأوقات الفاضة بسيئ الأعمال؛ ليكون ذلك أوجع في عتابه، وأشد لمقته؛ لحرمانه بركة الوقت، وانتهاكه حرمة الوقت". إحياء علوم الدين (1/ 249).

قال العز بن عبد السلام: "لا يقدم المفضول على الفاضل إلا غبي جاهل برتب الفضائل، أو شقي غافل عن أعلى المنازل". شجرة المعارف والأحوال (ص 8).

ب. مضاعفة الصلوات بمكة.

عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

«صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مئة ألف صلاة فيما سواه».

                                                                                                                                                                                                                      مسند أحمد (3 /343, 397).

قال سفيان بن عيينة رحمه الله: (فيرون أن الصلاة في المسجد الحرام، أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنّما فضَّله عليه بمائة صلاة). مسند الحميدي (2/420)، شرح معاني الآثار (3/126).

ومضاعفة أجر الصلوات في مكة تعم جميع الحرم، وليس خاصًّا بمسجد الكعبة، على أصح أقوال أهل العلم:

الأدلة: هناك أربع قرائن تدل على ذلك:

1- عن المسوربن مخرمة و مروان بن الحكم - في حديث الحديبية - قالا: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في الحرم وهو مضطرب في الحل. أحمد (4/ 323)، بإسناد حسن. 

والمعنى: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان بالحديبية ونصب خيمته في الحل وإذا جاء وقت الصلاة ذهب إلى مصلاه في الحرم. وفي هذا يقول ابن القيم: وفي هذا كالدلالة على أن مضاعفة الصلاة بمكة تتعلق بجميع الحرم, لا يخص بها المسجد الذي هو مكان الطواف. زاد المعاد (3/ 265).

2- كان ابن عمر إذا دخل أدنى الحرم أمسك عن التلبية ثم يبيت بذي طوى ثم يصلي به الصبح ويغتسل ويحدث أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك .

وجه الاستشهاد منه: أنه صلى الله عليه وسلم صلى في أرض الحرم، مع أنه دخل مكة من أدنى الحل، فلم يصلِّ في الحل جهة التنعيم، ولا في مسجد الكعبة وهي قريبة من ذي طوى، فدل ذلك على أن المفاضلة حاصلة فيه.

3- عند منصرفه صلى الله عليه وسلم من منى يوم الثالث عشر من ذي الحجة في حجة الوداع، كان نزوله بالبطحاء (المحصَّب)، صلَّى بها: الظهر والعصر والمغرب والعشاء، كما في حديث أنس عند البخاري، وهذا الموضع بين مكة ومنى وهو إلى منى أقرب، وهو خيف بني كنانة، وحدّه من الحجون ذاهبًا إلى منى.

وهذا المكان لا يبعد عن مسجد الكعبة كثيرا؛ فلو لم تكن الصلاة فيه مضاعفة لما صلَّى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم كل هذه الصلوات، لاسيما والمحصب ليس من النسك باتفاق.

4- ثبت في السنة النبوية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع نصب مخيمه في بطحاء مكة وهي بين جبل حراء (النور) والمعابدة اليوم، وتبعد عن المسجد الحرام مسيرة 20 - 30 دقيقة تقريبا، مع أنه صلى الله عليه وسلم لو شاء لنصب خيامه بجوار المسجد الحرام، وفي هذا إرشاد بليغ لأمته بأن السكنى بقرب المسجد الحرام خلال الحج ليست واجبًا ولا سنة من الناحية الشرعية. بل هو تفضيل شخصي لفئات من الحجاج ترغب في السكنى قرب الحرم وتدفع أجرة عالية لتحقيق ذلك.

وأصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم أقاموا بالأبطح وأحرموا بالحج منه يوم التروية عن أمره صلى الله عليه وسلم، ولم يأمرهم النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يذهبوا إلى البيت فيحرموا عنده.

مواد متعلقة

القائمة البريدية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك كل جديد لدينا