مكانة مكة المكرمة عند الرسول صلى الله عليه وسلم
اختار الله آخر أنبيائه من مكة، فقد وُلد وعاش فيها معظم عمره صلى الله عليه وسلم فيها، ومكث داعيًا فيها ثلاثة عشر عامًا، ثم هاجر إلى المدينة، ولهذه البلدة في نفسه منزلة رفيعة، نجليها من جانبين:
الجانب الأول: مكانتها عند النبي صلى الله عليه وسلم:
1- أنها أحب البلاد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم:
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكة:
"ما أطيبك من بلد وأحبك إلي، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك".
رواه الترمذي (3926)، وصححه ابن حبان (3709) والحاكم (1787).
2- تنازله عن شروط صلح الحديبية تعظيمًا لحرم الله:
ففي ذي القعدة من سنة ستٍّ من الهجرة المباركة، عزم الحبيب - صلى الله عليه وسلم - على زيارة البيت الحرام، فانتدب المؤمنين من حوله للخروج معه لأداء نسك العمرة في شهر رجب الحرام.
وأحرم - صلى الله عليه وسلم -، وأحرم من معه ملبِّين بالعمرة، وساروا في طريقهم إلى مكة.
وبلغ قريشًا خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - وكانوا ألفًا وأربع مئة رجل قد ساقوا معهم الهدي؛ وكان معهم قرابة سبعين بعيرًا - وكان - صلى الله عليه وسلم - لا يريد حربًا، وإنما يريد الاعتمار لا غير.
ثم عدل عن الطريق التي كان بها خالد ومن معه طليعةَ لقريش، فتيامن، وسلك الطريق التي تهبط على الحديبية، وفجأة بركت ناقته، فقال الناس: خلأت،
فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:
«ما خلأت، وما هو لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل».
وها هنا حكمة ربانية: ألا وهي حبس الله عز وجل ناقة النبي - صلى الله عليه وسلم - عن دخول مكة؛ كما حبس الفيل عن دخولها؛ لئلا تنتهك حرمة مكة، لأن الصحابة لو دخلوا مكة وصدتهم قريش عن ذلك، لوقع بينهم قتال.
ولفت النبي - صلى الله عليه وسلم - أنظار قريش إلى قضية جليلة؛ وهي: أنهم لو طلبوا منه خصلة وخطة يعظمون فيها حرمات الله؛ من ترك القتال في الحرم، والجنوح إلى المسالمة، والكف عن إراقة الدماء، لأجابهم إليها، وأعطاهم إياها.
لذلك قال - صلى الله عليه وسلم -:
«والذي نفسي بيده، لا يسألوني خُطة قطّ يعظمون فيها حرمات الله إلاّ أعطيتهم إيّاها».
روى هذه القصة البخاري رقم (2731، 2732).
3- دخوله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكة في عمرة القضاء بسلاح الراكب:
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المدينة إلى مكة لأداء العمرة حسب الشروط التي تمت في صلح الحديبية، وقد كان من الشروط:
"وأنك ترجع عنا عامنا هذا فلا تدخل علينا مكة وأنه إذا كان عام قابل خرجنا عنك فتدخلها بأصحابك وأقمت فيهم ثلاثًا معك سلاح الراكب لا تدخلها بغير السيوف".
رواه أحمد (18930), وهو حديث حسن.
ثم قدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى مكة في العام القادم ودخلوها بسلاح الراكب (السيوف) كما هو الشرط. أخرجه البيهقي في الدلائل (4/314) وإسناده مرسل، من حديث موسى بن عقبة عن الزهري، وابن سعد في الطبقات (2/121) معلقًا.
4- رده صلى الله عليه وسلم على سعد بن عُبادة قولته: اليوم يوم الملحمة, اليوم تستحل الكعبة:
كان سعد بن عُبادة على كتيبة الأنصار يوم فتح مكة، فقال سعد بن عُبادة - لأبي سفيان -: يا أبا سفيان اليوم يوم الملحمة (أي: المقتلة العظمى) اليوم تستحل الكعبة، فقال أبو سفيان: يا عباس حبذا يوم الذِّمار (أي: الهلاك) ثم جاءت كتيبة وهي أقل الكتائب، فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وراية النبي صلى الله عليه وسلم مع الزبير بن العوام.
فلما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان قال:
"ألم تعلم ما قال سعد بن عُبادة؟ قال: ما قال؟ قال: كذا وكذا، فقال-النبي صلى الله عليه وسلم-: "كذب سعد ولكن هذا يوم يعظِّم الله فيه الكعبة ويوم تُكسى فيه الكعبة".
رواه البخاري (4030).
قوله: "يوم يعظَّم فيه الكعبة" يشير إلى ما وقع من إظهار الإسلام وأذان بلال على ظهرها وغير ذلك مما أزيل عنها مما كان فيها من الأصنام ومحو ما فيها من الصور وغير ذلك. فتح الباري (8/9).
5- أمرُه صلى الله عليه وسلم بتطهير البيت الحرام بإزالة الأصنام و تكسيرها:
لمّا نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة واطمأن الناس خرج حتى جاء البيت فطاف به، وفي يده قوس، وحول البيت وعليه ثلاثمائة وستون صنمًا، فجعل يطعنها بالقوس،
ويقول:
{ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا }
[الإسراء:81]
{جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ}
[سبأ:49]
والأصنام تتساقط على وجوهها، وإنه لمظهر رائع لنصر الله وعظيم تأييده لرسوله، إذ كان يطعن تلك الآلهة الزائفة المنثورة حول الكعبة بعصا معه، فما يكاد يطعن الواحد منها بعصاه حتى ينكفئ على وجهه أو ينقلب على ظهره جذاذًا، ورأى في الكعبة الصور والتماثيل فأمر بالصور وبالتماثيل فكسرت، وأبى أن يدخل جوف الكعبة حتى أخرجت الصور.
انظر: السيرة النبوية للندوي، ص339، فقه السيرة للبوطي، ص282.
6- لم ينسها صلى الله عليه وسلم وهو بالمدينة:
عن عائشة قالت:
قدمنا المدينة وهي وبيئة فاشتكى أبو بكر واشتكى بلال فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم شكوى أصحابه قال: "اللهم حبب إلينا المدينة كما حببت مكة أو أشد وصححها وبارك لنا في صاعها ومدها وحول حماها إلى الجحفة"(6).
"وبيئة: كثيرة الوباء"
رواه مسلم (1376).
7- تمنيه صلى الله عليه وسلم أن يحول الله القبلة من بيت المقدس إلى مكة:
قال الله تعالى:
{قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينّك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام}
(البقرة: 144).
فهذا الاستشراف منه عليه الصلاة والسلام فرع عن الحب والمكانة لهذه البقعة.
قال قتادة: (كان نبي الله صلى الله عليه وسلم يصلي نحو بيت المقدس، يهوى ويشتهى القبلة نحو البيت الحرام، فوجّهه الله جل ثناؤه لقبلة كان يهواها ويشتهيها). تفسير الطبري: 2/28.
قال ابن الجوزي - رحمه الله -: (سبب نزول هذه الآية: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب أن يوجه إلى الكعبة، قاله البراء، وابن عباس، وابن المسيب، وأبو العالية، وقتادة). زاد المسير (1/140).
8- دخوله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح مطأطئًا رأسه:
دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وعليه عمامة سوداء بغير إحرام، وهو واضع رأسه تواضعًا لله، حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح، حتى إن ذقنه ليكاد يمس واسطة الرحل، ودخل وهو يقرأ سورة الفتح، مستشعرًا بنعمة الفتح وغفران الذنوب، وإفاضة النصر العزيز، وعندما دخل مكة فاتحًا رفع كل شعار من شعائر العدل والمساواة، والتواضع والخضوع، فأردف أسامة بن زيد - وهو ابن مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم - ولم يردف أحدًا من أبناء بني هاشم وأبناء أشراف قريش وهم كثير، وكان ذلك صبح يوم الجمعة لعشرين ليلة خلت من رمضان، سنة ثمانٍ من الهجرة. انظر: القصة في صحيح مسلم (1358)، البخاري (4281)، (4289)، السيرة النبوية لأبي الحسن الندوي، ص337.
9- يخطب صلى الله عليه وسلم بالناس بعد الفتح مبينًا حرمتها:
عن أبي شريح العدوي رضي الله عنه أنه قال لعمرو بن سعيد، وهو يبعث الجيوش إلى مكة: ائذن لي أيها الأمير أُحدثك قولًا قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم للغد من يوم الفتح، فسمعته أُذناي، ووعاه قلبي، وأبصرته عنياي حين تكلم به، وإنه حمد الله، وأثنى عليه،
ثم قال:
«إن مكة حرمها الله، ولم يحرمها الناس، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دمًا، ولا يعضد بها شجرةً، فإن أحدٌ ترخَّص لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا له: إن الله أذن لرسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يأذن لكم، وإنما أذن لي ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، وليبلغ الشاهد الغائب».
رواه البخاري (1832) ومسلم (1354).
10- دعاؤه صلى الله عليه وسلم لها بالبركة:
عن ابن عمر أن نبي الله صلى الله عليه وسلم دعا فقال:
« اللهم بارك في مكتنا، وبارك لنا في مدينتنا، وبارك لنا في شامنا، وبارك لنا في يمننا، اللهم بارك لنا في صاعنا، وبارك لنا في مدنا ...».
رواه يعقوب الفسوي في المعرفة والتاريخ واللفظ له (2/747-748)، وأبونعيم في حلية الأولياء (6/133)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (1/120)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2246).
مواد متعلقة
-
مكانة مكة وفضلها
يبحث المقال مكانة مكة المكرمة... -
تحذير لقاصدي مكة
يعرض المقال تحذيرات لقاصدي مكة... -
مكانة الرسول صلى الله عليه وسلم عند ما فيها
مقال يبحث في مكانة النبي صلى ا... -
فضل مكة على العالم
يبحث المقال في فضل مكة على الع... -
معالم مهد الرسالة الخاتم
مقال يبحث في معالم مكة، وخصائص...