أحكام الحرم المكي وخصائصه

شارك المادة :

تحريم الصيد في الحرم.

أباحت الشريعة الأكل من الطيبات، والصيد مما أباحه الله لعباده، وكان عيش إسماعيل عليه السلام الصيد، ولم يُنه عنه شرعًا من حيث المكان إلا في موضعين:

1 - حال الإحرام: فالمحرم ممنوع من الصيد بمجرد دخوله في النسك.

2 - والحرم المكي بكامل حدوده.

قال الله تعالى:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ}

                                                                                                                                                                                   (المائدة: 95)

فقوله تعالى: {وأنتم حرم} شامل لحالة الإحرام، والحلول في الحرم.

وقال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يوم فَتْحِ مَكَّةَ:

(إِنَّ هذا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ الله لاَ يُعْضَدُ شَوْكُهُ، ولا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ...).

                                                                                                                                                                   رواه البخاري، (2/ 575)، ومسلم (1353).

ومعنى (لا ينفر صيده)؛ أي: لا يُزعج من مكانه، ولا يُقصد إلى إزالته. وقيل: أن يُنَحَّى من الظلِّ، ويُنْزَل مكانُه.

وحرمة منع المحرِم من الصيد في أرض الحِل مؤقتة؛ لأجل النسك، فإنه بمجرد التحلل من إحرامه يجوز له الصيد فيها، أما منطقة الحرم المكي، فإنه لايحل بحال.

ومن تأمل أنه لمّا قصد البيت الحرام ولبّى، كيف أنه حرُم عليه الصيد، وقد يمر أمامه قطيع من الغزلان أوسرب من الحمام أوفوج من الجراد، إلا أنها كلها لا تُثَار ولا تُهَاج علم أن لله في ذلك حكمة، وعند دخوله البلد الأمين يشاركه غيره من سكانه، فيمر الطير بجواره وهو آمن، والناس يقولون: "آمن من حمام مكّة، ومن غزلان مكة". قال الجاحظ (ت 255): وهذا شائع على جميع الألسنة، لا يردّ أحد ممن يعرف الأمثال والشّواهد. انظر: مجمع الأمثال (1/ 87)، الحيوان (3/ 95).

الحكمة من تحريم صيد البرِّ على المحرِم:

الصيد فيه شيءٌ من اللّهو، وأنّ الاشتغال به كثيرًا ما يؤدّي إلى الغفلة، ويهدرُ كثيرًا من الوقت في سبيل نيله، وأنّ اللّهو والغفلة كلاهما لا يتفقان مع ما يتلبس به الحاجّ من عبادة الحجّ، التي هي من أعظم العبادات، وأجلِّها.

ويؤكد هذا المعنى ما ورد في حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - مرفوعا، كما عند أبي داود (2859)، والترمذي (2256): (ومن اتبع الصيد غَفَل)، ومعناه: مَن لازم الصيد والاشتغال به غَفَل عن الطّاعة والعبادة.

وإن قيل: لو كان المقصود من تحريم الصيد هو اتقاء الغفلة واللّهو المُنسي لذكر الله تعالى؛ فلِمَ حَرُمَ على المحرم أكلُ ما لم يصده؟

قلنا له: إنّ ما صيد لأجله يعتبر في الصّورة كأنّ المحرم صاده بالمشاركة، وإن ما لم يُصَدْ لأجله لا مانع من أكله.

ومن أسرار تحريم الصيد على المحرم أيضًا: أن المحرم بمجرد ما قال: (لبيك اللّهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك ... ) قد نبذ وراءَه كلّ ما من شأنه الاشتغال باللّذات، وأقبل على روحه يزكّيها بذكر الله تعالى، ويطهِّرها بالتّوجه والإقبال عليه، فلم يبق له مع هذا مجالٌ للهو والاشتغال بالصّيد.

انظر: مرقاة المفاتيح (7/ 255)، الحج المبرور، للجزائري (ص 55 - 56).

 الحكمة من تحريم الصيد على عموم الناس بمكة

يمكن أن يقال في حق المحرِم وغيره: إن مكة مدرسة لتعليم الأمن والطمأنينة، وهذا المعنى ظاهر كما في الحديث المتفق عليه: (ولا ينفر صيده)؛ إذ التنفير هو مجرد تنحيته من مكانه، قال ابن القيم: لأنه حيوان محترم في هذا المكان، قد سبق إلى مكان فهو أحق به. زاد المعاد (3/ 397).

ويفهم منه كذلك: إن كان مجرد التنحية من المكان منهيّا عنه فاصطياده آكد في التحريم.

ومن المعلوم أنّ للأمن تأثيرًا على أداء العبادات، وانظر كيف أن الله امتن على قريش بهذه النعمة ليقوموا بعبادته:

(فليعبدوا رب هذا البيت)

                                                                                                                                                                                              [قريش].

قال الزِّرِكْلي في (رحلته): أجلتُ النَّظرَ في ذلك البناء المقدّس، فراقني مشهدُ الطّائفين حولَ قبلة عالم الإسلام، ولذَّني مرأى الحمائم تزدحم وتقتحم وتروح وتغدو آمناتٍ كلّ أذى، راتعات في كلّ جانب، حرَّم الله صيدها؛ فتوالدت وتكاثرت، وأنست بالإنسان، فمنعها الله كيده وشره، وقديمًا ضربت العرب أمثالها بأمْنها، وأُلفتَها بأمْنِها وأُلفَتِها، فقالت: آمَنُ من حمام مكةَ، وآلف من حمام مكة.

انظر: المختار من الرحلات الحجازية (3/ 955).

 - ضابط الصيد المحرم:

هو ما تحقق فيه ثلاثة أمور:

الأول: أن يكون الصيد مباحاً أكله.

قال الإمام أحمد - رحمه الله: (إنما جُعلت الكفارة في الصيد المُحلَّل أكله). المغني، (3/ 266).

الثاني: أن يكون الصيد من الحيوانات غير المستأنسة، أي: التي لا تألف الناس ولا تكون معهم.

لا خلاف بين العلماء: أنَّ الحيوان المستأنس؛ كبهيمة الأنعام، والخيلِ، والدجاجِ، ونحوِ ذلك، لا يَحْرُم على المُحْرِم ذبحُها، ولا أكلُها أيضاً، نَقَلَ ذلك: ابن حزم، وابن قدامة، وابن حجر، وغيرهم.

انظر: مراتب الإجماع ص (44)، المغني (3/ 267).

 الثالث: أن يكون الصيد بريًّا ليس بمائي.

لأن الله تعالى أباح الصيد المائي بقوله:

﴿ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا ﴾

                                                                                                                                                                                         [المائدة: ٩٦].

- جزاء الصيد:

أ. إذا أصاب المحرِم صيدًا فعليه الجزاء.

- قال الله تعالى:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ}

والآية صريحة في إيجاب الجزاء على المحرِم.

 - حكى الإجماع على وجوب الجزاء: ابن رشد، وابن قدامة، وابن بطال، وغيرهم. انظرِ: بداية المجتهد (2/ 358)، فتح الباري (4/ 21).

ب. إذا أصاب الحلال صيدًا في الحرم فعليه الجزاء على الراجح، وهو قول الجمهور.

- واستدلوا بنفس الآية السابقة إلا أن الحكم المستنبط منها كان القياس؛ وذلك لأن صيد الحرم مُنِع لحقِّ الله تعالى، فأشبه صيدَ الإحرام، لذا أُلحق به في الكفارة.

وقيل: قيس بالمُحرِم الحلال في الحرم، بجامع حرمة التعرض. مغني المحتاج (1/ 524).

- قوله تعالى: {وأنتم حرم} شامل لحالة الإحرام، والحلول في الحرم.

قال ابن العربي - رحمه الله -

في قوله تعالى:

﴿ لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ﴾

: (عام في التحريم بالزمان، وفي التحريم بالمكان، وفي التحريم بحالة الإحرام، إلاَّ أن تحريم الزمان خرج بالإجماع عن أن يكون معتبراً، وبقي تحريم المكان، وحالة الإحرام على أصل التكليف). أحكام القرآن (2/ 175).

- ورود الجزاء - في كفارة صيد الحرم على الحلال - عن جمع من الصحابة - رضي الله عنهم -، ومنهم الخليفتان الراشدان عمر وعثمان - رضي الله عنهما -، ولا مخالف لهم في ذلك فكان إجماعاً. انظر: الحاوي الكبير، للماوردي (4/ 315)؛ المنتقى  (3/ 439)؛ الذخيرة  (3/ 325)؛ المغني (3/ 265).

مواد متعلقة

القائمة البريدية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك كل جديد لدينا