"لا إله إلا الله وحده صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ألا إن كل مأثرة كانت في الجاهلية تذكر وتدعى من دم أو مال تحت قدمي إلا ما كان من سقاية الحاج وسدانة البيت".
رواه أبوداود (4547)، وابن ماجه (2628)، وصححه الألباني في الإرواء (7/256).
مكانة مكة المكرمة عند غير المسلمين
لما خلق الله آدم عليه السلام ونفخ فيه الروح أخذ من ظهره ذريته إلى يوم القيامة في صعيد عرفة وهو موضع في الحل مرتبط ارتباطًا أزليًا وثيقًا بالحرم المكي، وفيها عرفهم ربهم بنفسه، وأشهدهم على أنفسهم أنه ربهم لا شريك له.
فكل ولد آدم لهم ارتباط بموضع الحرم بالفطرة فكانت لمكة مكانة حتى في نفوس من لم يؤمن بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، وسنجلي هذا الارتباط الفطري من جانبين:
كانت قريش في الجاهلية يحرمون أن يسكنوا مكة، وكانوا يكونون بها نهارًا، فإذا جاء الليل خرجوا إلى الحل، ولا يستحلون الجناية بمكة، فأذن لهم قصي أن يبنوا في الحرم.
ويروى أن أول من خلع نعليه عند دخول الكعبة تعظيمًا في الجاهلية الوليد بن المغيرة.
انظر: مثير العزم الساكن إلى أشرف الأماكن (2/33)، منائح الكرم في أخبار مكة وولاة الحرم (1/368).
كانت العرب في الجاهلية تغير بعضهم على بعض، ويقتل بعضهم بعضًا، وأهل مكة آمنون حيث كانوا، لحرمة الحرم، ومن المعروف أنه كان يأمن فيه الظباء من الذئاب والحمام من الحدأة، وازداد تعظيم العرب لبيت الله الحرام الذي تكفل بحفظه وحمايته من عبث المفسدين، وكيد الكائدين، وأعظمت العرب قريشا، وقالوا: هم أهل الله، قاتل الله عنهم وكفاهم العدو، وكان ذلك آية من الله، ومقدمة لبعثة نبي يبعث من مكة ويطهر الكعبة من الأوثان، ويعيد لها ما كان لها من رفعة وشأن.
وذكر ابن إسحاق في سيرته كما نقله ابن هشام عنه في السير, أن عبد المطلب أخذ بحلقة باب الكعبة، وقام معه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة وجنده، ثم أرسل عبد المطلب حلقة باب الكعبة، وانطلق هو ومن معه من قريش إلى شغف الجبال فتحرزوا فيها ينتظرون ما أبرهة فاعل بمكة إذا دخلها، وذكر بعد ذلك ما حدث من هلاك لأبرهة وجيشه.
انظر: السيرة النبوية لأبي فارس ص112، السيرة النبوية للندوي ص92، السيرة النبوية لابن هشام مع شرح أبي ذر ا لخشني (1/84-91).
قال السعدي: ومن الآيات البينات فيها أن من دخله كان آمنا شرعًا وقدرًا، فالشرع قد أمر الله رسوله إبراهيم ثم رسوله محمد باحترامه وتأمين من دخله، وأن لا يهاج، حتى إن التحريم في ذلك شمل صيودها وأشجارها ونباتها، وقد استدل بهذه الآية من ذهب من العلماء أن من جنى جناية خارج الحرم ثم لجأ إليه أنه يأمن ولا يقام عليه الحد حتى يخرج منه، وأما تأمينها قدرًا فلأن الله تعالى بقضائه وقدره وضع في النفوس حتى نفوس المشركين به الكافرين بربهم احترامه، حتى إن الواحد منهم مع شدة حميتهم ونعرتهم وعدم احتمالهم للضيم يجد أحدهم قاتل أبيه في الحرم فلا يهيجه، ومن جعله حرمًا أن كل من أراده بسوء فلا بد أن يعاقبه عقوبة عاجلة، كما فعل بأصحاب الفيل وغيرهم. تفسير السعدي (1/ 138).
وقد جاء الإسلام وأقرهم على ذلك:
فعن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب يوم الفتح بمكة فكبر ثلاثا ثم قال:
"لا إله إلا الله وحده صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ألا إن كل مأثرة كانت في الجاهلية تذكر وتدعى من دم أو مال تحت قدمي إلا ما كان من سقاية الحاج وسدانة البيت".
رواه أبوداود (4547)، وابن ماجه (2628)، وصححه الألباني في الإرواء (7/256).
قال محمد بن إسحاق: فلما أجمعوا أمرهم لهدمها وبنيانها قام أبو وهب بن عمرو بن عائذ بن عبد بن عمران بن مخزوم فتناول من الكعبة حجرا فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه - فيما يزعمون - فقال: يا معشر قريش لا تدخلوا في بنيانها من كسبكم إلا طيبا، لا يدخل فيها مهر بغي ولا بيع ربا، ولا مظلمة من أحد من الناس.
وكانت النفقة الطيبة قد ضاقت بقريش عن إتمام البيت على قواعد إبراهيم، فاضطروا إلى أن اقتطعوا منه قطعة من جهته الشمالية، وبنَوا على هذا الجزء الذي احتجزوه جدارا قصيرا للإعلام أنه من البيت وهو مايُعرف بالحِجر. انظر: سيرة ابن إسحاق (84).
كانت قريش تؤدي الرفادة إلى قصي وهو خرج يخرجونه من أموالهم يترافدون فيه, فيصنعون طعامًا وشرابًا للحجاج أيام الموسم.
وكان هاشم بن عبد مناف واسمه عمرو أول من أطعم الثريد بمكة، كان إذا حضر الحج قام في قريش فقال: يا معشر قريش إنكم جيران الله وأهل بيته وأهل الحرم وإن الحاج ضيف الله وزوار بيته وهم أحق الضيف بالكرامة فاجعلوا لهم طعاما وشرابا أيام الحج حتى يصدروا عنكم فكانوا يخرجون لذلك كل عام من أموالهم خرجا فيدفعونه إليه فيصنعه طعاما للناس أيام منى فجرى ذلك من أمره في الجاهلية على قومه حتى قام الإسلام ثم جرى في الإسلام إلى يومك هذا فهو الطعام الذي يصنعه السلطان كل عام بمنى للناس حتى ينقضي الحج. السيرة النبوية (1/ 261).
عن ابن إسحاق قال: (وكان حين أراد الله عز وجل كرامة نبيه صلى الله عليه وسلم، ورحمة العباد به واتخاذ الحجة عليهم، والعرب على أديان مختلفة متفرقة، مع ما يجمعهم من تعظيم الحرمة، وحج البيت، والتمسك بما كان بين أظهرهم من آثار إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وهم يزعمون أنهم على ملته، وكانوا يحجون البيت على اختلاف من أمرهم فيه.
فكانت الحمس: قريش وكنانة، وخزاعة، ومن ولدت قريش من سائر العرب يلهون بحجهم، فمن اختلافهم أن يقولوا: لبيك، لا شريك لك إلا شريك هو لك، تملكه، وما ملك.
فيوحد فيه بالتلبية، ثم يدخلون معه أصنامهم ويجعلون ملكها بيده - يقول الله عز وجل لمحمد صلى الله عليه وسلم: {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} ولا يخرجون من الحرم ولا يدفعون من المزدلفة، يقولون: نحن أهل الحرم، فلا نخرج منه، وكانوا يسكنون البيوت إذا كانوا حرمًا، وكان أهل نجد من مضر يهلون إلى البيت ويقفون على عرفة. سيرة ابن إسحاق (2/100).
نقل أبو الفرج ابن الجوزي عن غلام يقال له عبد المسيح وكان نصرانيًا، يحكي عن نفسه أنه جلس بمكان فأقبلت عليه قافلة من الحُجاج، قال: فقمت وتنكرت في زيّ المسلمين كأني محرم، فساعة وقعت عيني على الكعبة اضمحل عندي كل دين سوى الإسلام، فأسلمت واغتسلت وأحرمت.
وفي ضمن هذا السياق تجيء القصة التي رصدها الشيخ علي الطنطاوي حيث يقول: كنت في مصر، من بضع سنين وكانت في الجامعة بعثة من الطلاب تستعد لتمضي إلى الحج، فعلق بها طالب يعرفه إخوانه شيوعيًا، فأبوا عليه الصُّحبة، فقلت للدكتور: أنا أرى أن تأخذوه معكم، فلعل الله قد أذن بصلاحه فبعث هذه الرغبة في نفسه؛ فاستبعد ذلك، لكنه مع ذلك أخذ برأيي، واصطحبوه معهم، ولما رجعوا ولقيت هذا الأستاذ قال لي: لقد كان ما قَدَّرَتَ، ولكنه كان شيئًا عجيبًا، دَهَش له كل من كان معنا، حتى الطالب نفسه، فإننا ما إن بلغنا حدود الحرم ونزعنا ثيابنا؛ حتى تبدل نفسًا بنفس، كأنما نزع مع الثياب دنياه كلها من قلبه، وأفكار السوء من رأسه، وترك الباطل الذي كان يحيا فيه، وعاد الفتى المؤمن يجهر بالتلبية أكثر من جهرنا، ويخشع لها أشد من خشوعنا، فحسبنا ذلك تظاهرًا منه لنا، وتزلفًا إلينا، حتى إذا بلغنا باب الحرم، وبدت لنا الكعبةُ، غلبت عليه حال يستحيل أن تكون تصنعًا وتمثيلًا، وراح يبكي وينشَج؛ حتى لقد أبكانا، ثم كان أكثرنا طوافًا وصلاةً واستغراقًا في العبادة.
قلتُ - أي الطنطاوي -: هذا أثر الحرم في نفس المسلم، وهل في أماني المسلم أكبر من أن يرى تلك المشاهد، ويقف بتلك الأعتاب؟ فما مسلم يطوف حول الكعبة إلا أحسَّ أن وطنه الحقَّ ها هنا، لا البلد الذي ولد فيه، وشهد مدارج طفولته وملاعب صباه.
(من نفحات الحرم، علي الطنطاوي، ص7-9 بتصرف).
الرَّحالة الفرنسي (جيل جرفيه كورتلمون) الذي يقول: (في هذه الرّحلة التي لا تصدق وفي هذه المدينة الغامضة، حيث أجد نفسي فيها كما لو كنت أعيش معجزة. أستحضر أحداث الليل أمام عيني، فأرى السّراب، وهلوسات سِنة النوم والحيرة من المجهول التي تخنقني كلما اقتربت من سور الحرم الشريف، وقد فارق النوم عيني .. لم أغمض جفني منذ ثلاث ليال، عشتُ خلالها فيضًا من الانطباعات التي لا أجد لها معنى ... تستحضر ذكرياتي أدقّ ذكريات هذه الأيام التي قضيتها في هذه المدينة الخارقة، بعيدًا عن عالم الأحياء تقريبًا، كأنني نزعت رداء حياتي العادي لأغرق في نوع من السبات الروحي. وفي الوقت الذي تنخفض فيه درجة الحرارة أجد سعادتي الكبيرة في الذهاب لتأمل الحرم الشريف ... أستمتع بسماع صوت المؤذنين منادين للصلاة ... ولا يمكن أن يتصور المرء وجود نغمات إنسانية أكثر دفئًا وانسجامًا وقوّة وعذوبة من الأذان، يالروعة المشهد).
(رحلتي إلى مكة، جيل جرفيه كورتلمون ص75).
وكذلك الرحالة الإنجليزي (جوزيف بتس): حيث قسره سيده على الإسلام فأخذه للحج قال واصفًا أثر الكعبة على نفسه وعلى نفوس الحجاج: (فدخلنا المسجد الحرام من باب السلام، وعندما وقع نظر الحجاج لأول مرة على الكعبة فاضت الدموع ... وكان يتملكني إعجاب شديد بقوة إيمان هؤلاء الحجاج وخشوعهم أثناء أداء الطواف والسعي، ولم أستطع أن أكبح دموعي لِما رأيت من عواطف الحجاج).
(انظر: المختار من الرحلات الحجازية، للشريف 1/327).
والرّحالة الألماني (دومنجو باديا ليبليخ) الذي تسمّى (علي باي العباسي) يقول في وصف شعوره حين تراءى له منظر الكعبة: (وكان منظرًا خاشعًا، ومؤثرًا ... وشعرت حين قبلت الحجر الأسود أنّ شفتيّ ترتاحان لذلك). (الرحلات المحرمة إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة، محمد أحمد، ضمن سلسلة جمهرة الرحلات 3/63).
والرّحالة الإيرلندي (بيرتون) الذي تظاهر بالإسلام حتى دخل مكة: يقول عن منظر تأثر الحجاج بمنظر الكعبة وطوافهم حولها: (المنظر أمامي غريب وفريد، وكيفما نظرت لهذا البيت المقدس يمكنني أن أقول بصدق إنّ من بين كل المؤمنين العابدين المتعلقين بأستار الكعبة الملصقين صدورهم على جدرانها باكين، لا أحد أعمق مشاعر من الحاج القادم من الشَّمال .. أما بالنسبة لي فقد أحسست بانجذاب صوفي وإحساس بالرضى).
(الرحلات المحرمة إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة، محمد أحمد، 3/150).
وهذا الرّحالة الألماني (يوهان وايلد) الذي يصف في حجه مهابة ركب الحجيج، ومهابة مشعر عرفات حيث يقول: (على المرء أن يكون قد رأى الطريقة المهيبة التي سار بها أهل مكة إلى الجبل، وجمالهم كلها ملفوفة بالسجاد. كانت النساء على الجمال يهللن على طول الطريق، وكذا كان يفعل الرجال).
(مكة المكرمة في عيون رحالة نصارى، أغسطس رالي، ترجمة حسن غزالة، ص 96).
وكان الرّحالة (أولريخ ياسبر سيتزن) الذي تسمى بالحاج موسى قد تحدث عن نفسه عند دخوله مكة بصحبة صديقه من أهل جدة التاجر عبد الله السّقاط، قال: (تخيل منطقة مدورة تحيط بها ثلاثة أو أربعة صفوف من أعمدة المرمر، خلفها مجموعة قليلة من الأبنية الصغيرة، هذا هو مشهد هذا المسجد المقدس، من حوله ترتفع المنازل على شكل طبقات، وفوقها التلال، وبذلك تتصور نفسك في مسرح روماني مهيب، ميدانه الساحة العظيمة للمسجد. خلف المشهد كله انطباعًا لم أشعر بشيء منه قط في أي مسجد آخر).
(مكة المكرمة في عيون رحالة نصارى، أغسطس رالي، ترجمة حسن غزالة، ص 120).
وكذلك الرّحالة الألماني (أينريك فريهير فون) الذي تسمى بسيدي عبد الرحمن السكيكدي، حيث قال حين دخل مكة مع وفد الحجاج أول مرة قبيل الفجر، يصف مهابة البيت العتيق، وأثره عليهم: (لم يوجد ولا رجل واحد لم ينادِ بأعلى صوته "لبيك" تخرج من أعماقه ... في هذه اللحظة المقدسة خرَّ كثيرون على ركبهم رافعين أيديهم بلهفة نحو الكتلة السوداء - يعني الكعبة - وألقى آخرون بأنفسهم على الأرض ساجدين يقبلون رمال الصحراء بحماسة شديدة، أطلق الجميع العنان لعواطفهم وحماستهم بكل وسيلة متاحة .. كان بالتأكيد مشهدًا لم يكن ليرى خارج مكة).
(مكة المكرمة في عيون رحالة نصارى، أغسطس رالي، ترجمة حسن غزالة، ص 222، وهج الشعائر، للطارقي، ص 12-13).