فضل مكة المكرمة على العالم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ابتلاء الله للخليل إبراهيم - عليه السلام -:
عباد الله: لقد أحب الله بقعة من الأرض، وحرمها قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، فلما خلق السماوات والأرض، وكان تحريم هذه البقعة مكتوبًا عنده في اللوح المحفوظ؛ بقيت هذه البقعة ما شاء الله أن تبقى، من أول البشرية إلى أن ظهر إبراهيم الخليل - عليه السلام -، فأمره الله -تعالى- أن يرحل من الشام إلى هذه البقعة، وأن يأخذ معه وليده إسماعيل، الذي جاءه على حين كبر من سنه، وأمه هاجر، ليضعهما في ذلك المكان، وكان مكانًا مقفرًا موحشًا: {بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} [إبراهيم: 37]. ولا ضرع، ولا أنيس، ويولي ظهره وينصرف.
وفي ذلك ابتلاء عظيم لإبراهيم الخليل - عليه السلام - في ولده إسماعيل، يتركه وهو مشتاق إليه جداً، فقد جاءه بعد هذه السنوات الطويلة التي عاشها بلا ولد، ليتركه في مكان، ظاهر الأمر أنه هلكة، وليست هذه هي الابتلاءة الوحيدة للخليل في إسماعيل، فستكون هناك ابتلاءة أكبر؛ بذبحه.
ولى الخليل ظهره لأحب الناس إليه، فقالت هاجر: إلى من تتركنا؟ فلم يجب، قالت: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، ومضى.
دعاء إبراهيم الخليل - عليه السلام - لمكة:
فلما اختفى عن الأنظار، قعد يدعو ربه: {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} [إبراهيم: 37].
ثم دعا الله، بما أن هؤلاء في وحشة، ولا يزيل الوحشة إلا بشر، قال: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ}[إبراهيم: 37].
وبما أنهم بغير طعام، قال: {وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ} [إبراهيم: 37].
وبما أنهم في أرض قفر يحتاجون إلى أمن، قال: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا} [البقرة: 126] قبل أن توجد مكة أصلاً، فلما وجدت بعد ذلك، قال: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا} [إبراهيم: 35] بالألف واللام. وكلا الدعائين في القرآن لإبراهيم الخليل.
إجابة الله لدعاء الخليل - إبراهيم -عليه السلام -:
فكيف أجاب الله دعاءه؟ أنبع الماء، وصارت الطيور تحوم في السماء فوقه، وناس من جُرهم من العرب، يقولون: عهدنا بهذا الواد ليس به ماء؟! فيأتون ويفاجؤون بالماء: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30].
فيطلبون الإقامة عند أم إسماعيل، ليبدأ تأسيس أحب بلد إلى الله في العالم، التي قال نبينا - صلى الله عليه وسلم - لها وهو يغادرها مضطرًا: ((والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله ولولا أني أخرجت منك ما خرجت)) [رواه الترمذي: 3925، وابن ماجه: 3108، وأحمد: 18737، وصححه الترمذي في صحيح الترمذي: 3082].
الإجابة الأخرى: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} [إبراهيم: 37]. قال الله: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ} [البقرة: 125] يثوبون إليه، يأتون ويرجعون، ويشتاقون، فيذهبون ويرجعون، ويشتاقون ويذهبون، وهكذا.. لا يطفش أحد من الكعبة.
واستجاب الله الدعاء أيضاً بالإضافة إلى جعلها مثابة في كل قلب مسلم حنين وشوق إليها، قال الله له بعد ذلك لما أمره ببناء الكعبة: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ} [الحـج: 27] وصار الناس يفدون إليها في كل سنة مرارًا وتكرارًا، يأتونها، فهذه الاستجابة العظيمة الأخرى.
ولأجل قوله: {وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ} [إبراهيم: 37]. ماذا قال الله في الاستجابة؟ {يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِن لَّدُنَّا} [القصص: 57]. ومن أنحاء العالم تأتي الثمار إلى مكة، فلا تكاد تجد نوعا من أنواع الثمار في العالم إلا ويؤتى إليها به، حتى فواكه الصيف والشتاء، وأنواع البضائع، وما يجلبه الحجاج، وغيرهم، ومنها ما يجلب إلى مكة عبر ميناء بلدكم هذا ومطاره.
وتمت الاستجابة، بجلب الثمار إلى مكة من أنحاء العالم: {يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِن لَّدُنَّا} [القصص: 57].
ولما قال الخليل: {اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا} [البقرة: 126] جعله الله بلدًا، فمن بعد جُرهم جاءت العرب، ثم جاءت العجم، وجاء المسلمون من كل مكان، واستُوطنت، وكبرت، واتسعت، كله استجابة لدعاء الخليل: {اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا} [البقرة: 126] فصار بلدًا عظيمًا. بل هو أم البلدان، كما قال الله: {لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى} [الشورى: 7] مركز العالم.
ولما كانت الدعوة أيضاً: {اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا} [البقرة: 126] فقد تضمنت أن يكون بلدًا، وقد كان قفرًا، ليس فيه شيء، فصار بلدًا، ثم صار فيه أمن عظيم، فقال الله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا} [العنكبوت: 67]. {أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا} [القصص: 57]. {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97]. {الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} [قريش: 4]. قريش سكانه، وأقسم الله بأمانه، فقال: {وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} [التين: 3].
مكانة الكعبة - البيت الحرام -:
ثم أخبر الله إبراهيم بمكان البيت ليبنيه: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} [الحـج: 26]. {مَكَانَ الْبَيْتِ} أعظم من بينانه.
{مَكَانَ الْبَيْتِ} تتعلق به الأحكام، حتى لو زال البنيان، فالحكم للمكان، يُطاف به، ويُستقبل في الصلوات المكان. {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ} حددنا، أخبرنا، أعلمنا، مكان البيت، فبناه على التوحيد.
خصائص الكعبة - البيت الحرام -:
وكان لهذا البيت شأن عظيم، فمحبته مزروعة في القلوب، والناس إليه تثوب، ويُستقبل في الصلاة، فيجب على كل من كان في المسجد الحرام: أن يستقبل عين الكعبة.
ومن كان في مكة، يستقبل المسجد الحرام. ومن كان في خارجها، يستقبل مكة في الصلاة؛ لأن فيها الكعبة.
ولا يوجد مكان في العالم، يجب على جميع المسلمين أن يأتوه في عمرهم مرة واحدة على الأقل إلا مكة.
ولا يوجد بنيان في العالم، يجوز الطواف به عبادة لله، إلا الكعبة.
ولا يوجد حجر في العالم، يجوز مسحه تعبدًا، إلا الأسود واليماني.
ولا يوجد ماء في العالم يشرب تعبدًا، وتؤجر على شربه، غير زمزم.
وقلنا: الحجر الأسود يمسح تعبدًا لا تبركًا؛ لأن بعض الناس يظن أن مسحه، يُتبرك به، فيسمح عليه ويمسح على جسده، ويمسح عليه، ويمسح على ولده، وهذا من الجهل العظيم.
وقد قال عمر - رضي الله عنه -: "إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقبلك ما قبلتك"[رواه البخاري: 1597، ومسلم: 3126].
فالحجر الأسود من الجنة، ويمسح تعبداً لله، لحط الخطايا، لا تبركًا به، فالبركة من الله، وتسأل من رب العالمين.
وهذا البنيان العظيم، له أحكام، وبعد دائرة الكعبة، دائرة أخرى، وهي المسجد الذي أمر الله ببنائه، وقد قال الله: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا} [آل عمران: 96]. و{لَلَّذِي بِبَكَّةَ} لأنها تبك أعناق من يريد الشر بها، كما فعل الله بأبرهة.
وكذلك سماه: البيت العتيق؛ لقدمه، ولأن الله أعتقه من الجبابرة.
كم من بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى؟ أربعون سنة. كلاهما بناهما الخليل - عليه السلام.
آداب وأحكام المسجد الحرام:
وهذا المسجد حول الكعبة له أحكام عظيمة: تضاعف فيه الصلوات، كل صلاة مشروعة في المسجد تضاعف فيه أكثر من مائة ألف، لمن أخلص لله، فصلاة الفريضة، وتحية المسجد، ركعتا الطواف، صلاة الجنازة، صلاة العيدين، والكسوف.
كل بلدن العالم السنة في صلاة العيد أن يخرجوا إلى صحراء قريبة من البلد، إلا مكة، قال الشافعي - رحمه الله -: "يصلون في الحرم في المسجد الحرام، ولا يخرجون إلى صحراء قريبة من البلد".
الدائرة الثالثة: دائرة الحرم نفسه، الحرم الذي حرمه الله، فلا يجوز الصيد فيه، ولا تنفير الصيد، تخويف حمامة، لا يجوز قتل جرادة، لا يجوز؛ لأن الجراد من الصيد، قلع شجر الحرم، لا يجوز، لقطة الحرم، لا تلتقط إلا لمعرف، ولا يجوز تملكها أبدًا، وإذا ما وجد صاحبها فلبيت مال المسلمين.
له أحكام عظيمة هذا الحرم، وليس بمسافات واحدة من الكعبة، فأقرب نقطة من الحل إلى الكعبة:
- التنعيم، ستة كيلو تقريبًا.
- والجعرانة، شرقًا ستة عشر كيلو.
- والشميسي، غربًا جهة جدة خمسة عشر كيلو.
- وادي نخلة، جهة الطائف أربعة عشر كيلو، وهكذا..
هذا الحرم له علامات، هذا الحرم لا يدخله مشرك، لا خادمة، ولا غيرها، قال الله - تعالى -: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28]. والمقصود منطقة الحرام.
الدائرة التي بعدها: دائرة المواقيت، ليس أي أحد في العالم يريد أن يأتي بحج أو عمرة، يأتي كما هو، لا يقترب من مكة أصلا إلا وهو في قمة التواضع، كاشفًا رأسه، متجردًا من المخيط، بلا طيب، يلبس الرداء والإزار، يذكرانه بالآخرة، وما يخرجه به من الدنيا الكفن، من أين؟ من المواقيت، من بعيد.
- أقرب ميقات: قرن المنازل، ميقات أهل نجد ثمانية وسبعين كيلو تقريبًا.
- أبعد ميقات: ذو الحليفة، ميقات المدينة أربعمائة كيلو تقريبًا.
- ميقات الجحفة: ويحرم الناس من رابغ مائة وستة وثمانين كيلو تقريبًا.
- ميقات يلملم: لأهل اليمن والجنوب مائة وعشرين كيلو تقريبًا. وهكذا..
المواقيت ليست على مسافة واحدة من الكعبة أيضاً، ولكنها الدائرة بعد الحرم.
وبعد ذلك كل أنحاء العالم، قال الله - تعالى -: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 150].
فيجب على كل الناس في العالم إذا صلوا إلى الكعبة، ولا يجوز استقبال القبلة ولا استدبارها ببول ولا غائط، وقال عليه الصلاة والسلام: ((من تفل تجاه القبلة جاء يوم القيامة تفله بين عينيه))[رواه أبو داود: 3826، وصححه الألباني في صحيح الجامع: 6160].
قال بعض العلماء: هو في الصلاة. وقال بعضهم، كما قال النووي: حتى خارج الصلاة.
جهة القبلة والكعبة محترمة جداً في الشريعة.
بقاء البشرية ببقاء الكعبة -ا لبيت الحرام -:
وسيبقى هذا البيت يُحج ويُعتمر بعد يأجوج ومأجوج، كما قال عليه الصلاة والسلام: ((ليحجن هذا البيت وليعتمرن بعد خروج يأجوج ومأجوج)) [رواه أحمد: 11235، وقال محققو المسند: "صحيح وهذا إسناد حسن"].
وسيبقى لهذا المكان شرفه وفضله. فأمنوه -يا عباد الله-، اعتنوا بأمنه، واعتنوا بجلب الرزق إليه، واعتنوا بمعاونة الحجاج والعمار على أن يأتوه؛ لأن الله يريد هذا، ((استمتعوا من هذا البيت)) كما قال عليه الصلاة والسلام [رواه ابن خزيمة: 2506، والحاكم: 1610، وقال: "هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ" وصححه الألباني في صحيح الجامع: 955].
والله يغار على بيته، ولذلك أخبرنا عليه الصلاة والسلام في آخر الزمان، بعد المسيح ابن مريم، وبعد يأجوج ومأجوج، يرسل الله ريحًا، فتقبض أرواح المؤمنين، ويبقى شرار الناس، يتدرجون في الجهل لدرجة أن يصلوا إلى وقت لا يُعرف فيه التوحيد، ولا يوجد في الأرض من يقول: الله! الله!.
وبالتالي لا حج ولا عمرة، فيغار الله على بيته، إذا صار خلوًا معطلاً، فلا يبقيه هكذا، قال عليه الصلاة والسلام: ((ولن يستحل البيت الا أهله، فإذا استحلوه فلا يسأل عن هلكة العرب)) [رواه أحمد: 7897، وقال محققو المسند: "إسناده صحيح"] يعني بعدها سيفنون سريعًا.
ثم يبعث الله ذا السويقتين من الحبشة، فيخربه حجرًا حجرًا، وعند ذلك تقوم الساعة [انظر الحديث: في مسند الإمام أحمد: 7897، وقال محققو المسند: "إسناده صحيح" وخراب الكعبة على يد ذي السويقتين في البخاري: 1591، ومسلم: 7489].
فإذا قال إنسان: على أي شيء بقاء البشرية؟ اسمع - يا عبد الله - لو قال واحد: على أي شيء بقاء البشرية يعتمد؟ لا على الاقتصاد، ولا على التقنية، ولا .. على هذا البيت، والدليل قال تعالى: {جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ} [المائدة: 97].
{قِيَامًا} للبشرية...
{قِيَامًا} للناس في دينهم، فالحج مستمر، وإذا ترك الناس الحج سنة، كما قال ابن عباس: "أهلكهم الله" هذا قيام الدين. وقيام دنياهم، بالتجارات، وغيرها.
وقيام الجنس البشري نفسه: {جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ} [المائدة: 97].
فإذا هدمت الكعبة في آخر الزمان، أفنى الله البشرية كلها. اللهم اجعلنا ممن يعظمون بيتك يا رب العالمين. اللهم اجعلنا ممن يعبدك ويوحدك، ويشكرك ويذكرك، ويتوب إليك، ويثني عليك، ويستغفرك، يا أرحم الراحمين، يا رب العالمين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، أشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، خلق فسوى، وقدر فهدى، وشرع لنا من الدين ما وصى به نوحًا وأنبياءه - سبحانه وتعالى - حتى بعث إلينا بدعوة الخليل إبراهيم نبيًا، كما قال الخليل: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ} [البقرة: 129].
فبعث الله لنا محمدًا - صلى الله عليه وسلم -. أشهد أن محمدًا رسول الله الداعي إلى الله، أشهد أن محمدًا عبده ورسوله أفضل خلق الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الطيبين، وأزواجه وذريته وخلفائه وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على عبدك ونبيك إمام المتقين، وقائد الغر المحجلين، وخير من لبى وأتى بيتك. اللهم صل وسلم وبارك عليه، واجعلنا من أهل شفاعته، واحشرنا في زمرته، واجمعنا به في جنات النعيم.
فضل شهر محرم والصيام فيه: عباد الله: قد أظلكم شهر عظيم، هو شهر الله المحرم، جعله الله حرامًا يوم خلق السماوات والأرض: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة: 36].
شهر الله المحرم واحد منها، شرع الله فيه الصيام، فما من شهر كما أخبر عليه الصلاة والسلام بعد رمضان أحب إلى الله صيامه من شهر الله المحرم، حتى لو صامه كله، لكان ذلك طيبًا.
وكلما زاد المسلم من صيامه، فهو خير، فلو صام يومًا، وأفطر يومًا، وصام الاثنين والخميس، وأيام البيض، وتاسوعاء، وعاشوراء، وأفضله عاشوراء، الذي يكفر سنة، وتاسوعاء يومًا قبله.
وهذا الشهر الذي نجى الله فيه موسى ومن معه، وأهلك فيه فرعون ومن معه.
أهمية التاريخ الهجري في حياة المسلمين: كانت الأشهر الحرم أشهر السنة معروفة عند المسلمين، في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - بتواليها وترتيبها هذا، ولكن لم يكن عندهم تأريخ السنة الأولى: السنة الثانية، السنة الثالثة، وكانت العرب تؤرخ بالأحداث المشهورة، فيقولون: عام الفيل، كما يقول القدماء: عام الثلجة، عام المطر، عام الجوع، عام القحط، فلم يكن هنالك تأريخ، ولما صار عمر - رضي الله عنه - يرسل إلى البلدان المفتوحة للمسلمين والأمصار بخطابات ورسائل، وصار أمراؤها يحتاجون إلى معرفة تاريخ الخطاب، متى أتى؟ تأتينا منك يا أمير المؤمنين، رسائل لا ندري متى كتبت؟ جمع عمر - رضي الله عنه - الصحابة واستشارهم، متى يكون العام الأول؟ ما هو نقطة الصفر التي يحدد منها بمرور سنة عام واحد؟ والسنة التي بعدها عام اثنين؟ وهكذا..
احتاج المسلمون إلى وقت لبداية تاريخهم الإسلامي، فاتفق الصحابة على أن أعظم حدث في الإسلام يؤرخ به، هو الهجرة. فلم يؤرخوا بمولده، ولا بمبعثه، ولا بوفاته - عليه الصلاة والسلام -، ولا بالغزوات الأخرى، ولا بالإسراء والمعراج، أرخوا بالهجرة، العام الذي فيه الهجرة، حصلت الهجرة هو عام رقم واحد، اتفق الصحابة مع عمر - رضي الله عنه - على هذا.
معناها أن أعظم حدث مفصلي في الإسلام، كان له ما بعده، وتحول عظيم، نقطة تحول عظيمة في هذا الدين، تأريخًا وواقعًا، الهجرة، وما حدث بعدها من الخير العظيم، والفتح للإسلام والمسلمين، اتفقوا على أن وقت الهجرة هو العام رقم واحد.
متى يبدأ هذا العام؟ أي شهر تكون بداية هذا العام؟ ما هو الشهر رقم واحد؟ في العام رقم واحد؟ نظر عمر - رضي الله عنه - فإذا عودت الناس من الحج إلى الأمصار، كأنها بداية جديدة، عهد جديد، وحيث أن بداية الاستعدادات للهجرة كانت في شهر محرم، رأى عمر رضي الله عنه - مع الصحابة: أن يكون محرم هو شهر رقم واحد، وأن يكون عام الهجرة هو العام رقم واحد، فعدوا بعده، كم عام مضى على الهجرة؟ وابتدأ التاريخ الإسلامي الذي نعتز به، ويجب أن نعتز به، ويجب أن يبقى، ولا يجوز أن نعدل بغيره، ولا نذهب إلى ميلادي، ولا غيره من التواريخ، وإنما تاريخنا الذي نشرف به، ونفتخر به، هو تاريخنا الهجري القمري، كل شهر له آية بينة في السماء، إنه أمر عظيم.
اللهم اغفر لنا أجمعين، وتب علينا يا رب العالمين.
اغفر لنا ولوالدينا وللمؤمنين يوم يقوم الحساب.
اللهم إنا نسألك في مقامنا هذا أن لا تدع لنا ذنبًا إلا غفرته، ولا همًا إلا فرجته، ولا كربًا إلا نفسته، ولا عسيرًا إلا يسرته، ولا دينًا إلا قضيته.
اشف مرضانا، وارحم موتانا، واهد ضالنا، واجمع على الحق كلمتنا.
اجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًا، من أراد بلدنا بسوء وبلاد المسلمين فأشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره، واقطع دابره.
اللهم اجعل بلدنا هذا سخاءًا رخاءًا وسائر بلاد المسلمين.
اللهم إنا أحزاب الشرك والكفر قد تمالأت على إخواننا في الشام، وأنت الله القوي العزيز، لا يعجزك شيء في الأرض ولا في السماء، يا منزل الكتاب، يا مجري السحاب، يا هازم الأحزاب، اهزمهم وانصر المسلمين عليهم، إنك على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.
آمنا في الأوطان والدور، وأصلح الأئمة وولاة الأمور، واغفر لنا يا عزيز يا غفور.
{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 180 - 182].
مواد متعلقة
-
الآثار الواردة عن السلف عن مكة
ومضات في الآثار الواردة عن الس... -
مواطن الدعاء في مكة
يبحث المقال في مواطن ا... -
مكانتها عند الرسول صلى الله عليه وسلم
يبحث المقال مكانة مكة المكرمة... -
مكانة مكة وفضلها
يبحث المقال مكانة مكة المكرمة...