مكانة مكة وفضلها

مكانة مكة وفضلها
ما أكسب هذه البقعة عمقًا تاريخيًّا، ومكانة سامقةً، ارتباطها الوثيق بأعظم أركان الإيمان؛ فمن فضائلها ما لها تعلق بالله جل جلاله وملائكته وكتبه ورسله؛ وقد ورد في نصوص الكتاب والسنة، والكتب السماوية، والكتب التاريخية، ما يبين وشائج الصلة بينها، مما يستدعي أن نقف عند هذه البقعة وقفة تعظيم وإجلال، وبيان ذلك في المباحث الآتية:

مكانتها عند الله عز وجل:

1- مكة خير البلاد وأحبها إلى الله:

وقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على تل صغير بمكة يقال له (الحَزْوَرَة) واستقبل مكة ينظر إليها نظرة وداع، فقال مخاطبًا لها ولمن حولها:

وفيه دليل على أن مكة أفضل من المدينة المنورة، وأنّ بعض بقاع الأرض يحبها الله تعالى أكثر من بعض.

قال ابن القيم رحمه الله: (فلو لم يكن البلد الأمين خير بلاده، وأحبَّها إليه، ومختاره من البلاد، لما جعل عرصاتها مناسك لعباده، فرض عليهم قصدها، وجعل ذلك من آكد فروض الإسلام، وأقسم به في كتابه العزيز في موضعين منه،

وليس على وجه الأرض بقعة يجب على كل قادر السعي إليها، والطواف بالبيت الذي فيها غيرها، وليس على وجه الأرض موضع يشرع تقبيله واستلامه، وتحط الخطايا والأوزار فيه غير الحجر الأسود والركن اليماني). (زاد المعاد 1/47 – 48)

2- أقسم الله عز وجل بها في كتابه:

أ)

ب)

والمجيء باسم الإشارة (هذا) -والله أعلم- لفائدتين:

الأولى: التعظيم.

الثانية: الحضور. حيث نزلت السورة على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في هذا البلد.

3- جعل الله لها من الأسماء ما لم يجعله لغيرها من المدن:

أسماء مكة - شرّفها الله - في كتابه الكريم:

أ ) مكة:

ب ) بكة:

ج ) أم القرى:

د ) مَعَاد (بفتح الميم والعين):

هـ ) البلد:

و ) البلد الأمين:

4- جعل الله تحريم مكة يوم خلق السماوات والأرض:

ومعنى {حرَّمها} أي: جعلها حرامًا، والحرام الممنوع.

والمراد من تحريم البلدة: تحريم أن يدخل فيها ما يضاد صلاحها وصلاح ما بها من ساكن ودابة وشجر.

فيدخل في ذلك منع غزو أهلها والاعتداء عليهم وظلمهم وإخافتهم ومنع صيدها وقطع شجرها على حدود معلومة.  

فتحريم المكان: منع ما يضرّ بالحال فيه . وتحريم الزمان، كتحريم الأشهر الحرم: منع ما فيه ضر للموجودين فيه). (التحرير والتنوير 20/56-57).

أول بلدة على وجه الأرض ذكرها الله وخصها بأحكام قبل أن يسكنها أحدٌ من البشر كانت هذه البلدة المحرمة، فإن تحريمها كان يوم خلق السماوات والأرض، وستظل محرمة إلى قيام الساعة،

5- جعل الله بمكة أول بيت وُضع لعبادته:

في مكة أول مسجد وُضع في الأرض،

قال علي رضي الله عنه : «كانت البيوت قبله، ولكنه كان أول بيت وضع لعبادة الله» (الأزرقي 1/61، والحاكم في المستدرك 2/292، وصححه بن حجر في فتح الباري 6/470).

وهذا يدل على أن المراد بالبيت: بيت العبادة لا مطلق البيوت، وإلا فالبيوت المبنية للسكن كانت موجودة قبل الكعبة المشرفة.

6- اختار الله مكان البيت في الأرض حيال بيت آخر في السماء:

ربط الله تعالى مكة بالغاية التي خلق الناس لأجلها، وهو: عبادة الله وحده؛ فلذا جاء اختيار مكان هذا البيت حيال بيتٍ آخر في السماء تأكيدًا لهذا المعنى.

وجاء في وصفه أنه:

أ- بيتٌ في السّماء.

ب- بحيال الكعبة من فوقها.

ج- حرمته في السّماء كحرمة البيت في الأرض.

هـ- يُصلّي فيه كلّ يوم سبعون ألفًا من الملائكة، ثم لا يعودون فيه أبدًا.

( الأزرقي في أخبار مكة 1/ 49، وانظر: السلسلة الصحيحة 477).

وذهب بعض العلماء إلى أنّ المراد بالبيت المعمور في الآية: البيت الحرام في الأرض.

قال ابن القيم: ولا ريب أنّ كلا منهما بيت معمور: فهذا معمور بالملائكة وعبادتهم، وهذا معمور بالطائفين والقائمين والركع السجود، وعلى كلا القولين فكلٌّ منهما سيّد البيوت. (التبيان في أيمان القرآن ص 402).

فائدتان:

الأولى: جاء في الحديث (صحيح مسلم 162) أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى إبراهيم عليه السلام في السماء السابعة مسندًا ظهره إلى البيت المعمور، فلِمَ خُصَّ إبراهيم عليه السلام بمجاورة البيت المعمور الذي في السماء؟

قال ابن كثير: لأنه باني الكعبة الأرضية، والجزاء من جنس العمل. (تفسير القرآن العظيم 4/ 240).

الثانية: حُرمة المسافة بين البيتين في الأرض والسماء.

صحَّ عن علي بن أبي طالب وعبدالله بن عمرو رضي الله عنهما موقوفا أن حرمة البيت المعمور في السماء كحرمة الكعبة في الأرض، وجاء في رواية عبدالله بن عمرو: (والحرم حرمٌ بحياله إلى العرش) (شعب الإيمان للبيهقي 3706).

فيستفاد منه، ومن القاعدة المشهورة: الهواء له حكم القرار، أن المسافة من الحرم في الأرض، إلى الحرم الذي في السماء السابعة؛ بل إلى العرش = محظورة على الكافر محاذاتها، مهما علا وارتفع.

7- جعل الله مكة أول مكان لارتباط الأرض بنور السماء والوحي الإلهي:

بعد أن انطفأ نور الوحي، وبُدِلت شريعة الله في الأمم السابقة، ساد ظلام الخرافات والوثنيات، شعّ أول نور في هذا الوجود من مكة

 وحيًا سماويًا إلى من أرسله الله هدى للعالمين محمد صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن تخصيص مكة بهذا النور الإلهي فيه تشريف لها.

قال ابن كثير: (فأول شيء [نزل] من القرآن هذه الآيات الكريمات المباركات وهُنَّ أول رحمة رَحم الله بها العباد، وأول نعمة أنعم الله بها عليهم). (تفسير القرآن العظيم 8/ 437).

8- القرآن الكريم نزل أكثره في مكة:

بعد تعداد السور المكية التي نزلت فيها - وعليه استقرت الرواية من الثقات، وهي خمس وثمانون سورة. (البرهان في علوم القرآن 1/ 194).

وذكر السيوطي أن ما نزل بالمدينة باتفاق عشرون سورة، وما اختلف فيه بين المكي والمدني اثنتا عشرة سورة، وما عدا ذلك مكي باتفاق. (الإتقان في علوم القرآن 1/ 28).

وعليه تكون السور المكية اثنان وثمانون سورة على هذا القول.

لطائف عن قراءة القرآن في مكة:

قراءة القرآن من العبادات العظيمة التي تعمر بها مكة، وقد نُقل إلينا من حرص الصحابة ومن بعدهم تعبدهم بالقرآن في مكة ما لم ينقل عنهم في غيرها من البلدان، فعن إبراهيم النخعي قال: كانوا يحبون إذا دخلوا مكة أن لا يخرجوا حتى يختموا بها القرآن.

وعن الحسن قال: كان يعجبهم إذا قدموا للحج أو العمرة أن لا يخرجوا حتى يقرؤوا ما معهم من القرآن. (مصنف ابن أبي شيبة 2/ 407).

وأخرج أبو عبيد (281) والفريابي (140) عن علقمة أنه قرأ القرآن في ليلة طاف بالبيت أسبوعًا ثم أتى المقام فصلى عنده بالمِئِين، ثم طاف أسبوعًا ثم أتى المقام فصلى عنده بالمئين، ثم طاف أسبوعًا ثم أتى المقام فصلى عنده فقرأ بقية القرآن. ورواه ابن أبي شيبة (2/503) مختصرًا بلفظ أنه قرأ القرآن في ليلة بمكة.

فعن عبد الرحمن بن عثمان التيميِّ قال: قلتُ: لأغلبن الليلة على المقام، فسبقت إليه، فبينا أنا قائمٌ أصلي إذ وضع رجلٌ يده على ظهري، فنظرتُ فإذا هو عثمان بن عفان رحمة الله عليه، وهو خليفةٌ، فتنحيتُ عنه، فقام فما برح قائمًا حتى فرغ من القرآن في ركعة لم يزد عليها، فلما انصرف، قلتُ: يا أمير المؤمنين! إنما صليت ركعةً، قال: "أجل هي وتري". أخرجه ابن المبارك في الزهد (1276)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 294)، وصححه ابن حجر في نتائج الأفكار (3/ 161).

والأصل أن قراءة القرآن في أقلّ من ثلاث على المداومة منهي عنه، ولكن إذا تعلق الأمر بمكة بلدة العبادة؛ فإن هذا النهي يزول، قال ابن رجب: وإنما ورد النهي عن قراءة القرآن في أقل من ثلاث على المداومة على ذلك، فأما في الأوقات المفضلة كشهر رمضان، خصوصًا الليالي التي يطلب فيها ليلة القدر، أو في الأماكن المفضلة كمكة لمن دخلها من غير أهلها، فيستحب الإكثار فيها من تلاوة القرآن، اغتنامًا للزمان و المكان. لطائف المعارف (ص 183).

9- جعل الله أهل مكة أول من يوجه إليهم الدعوة الإسلامية:

فابتداء الدعوة في بلد الله الحرام فيه مزيد عناية بهذه البلدة وقاطنيها.

والمعنى: أنزلنا عليك قرآنًا عربيًّا بلسان قومك كما أرسلنا كلّ رسول بلسان قومه {لّتُنذِرَ أُمَّ القرى}، وهي: مكة، والمراد : أهلها {وَمَنْ حَوْلَهَا} من الناس). فتح القدير (4/526).

قال ابن عاشور مبينًا وجه هذا الاهتمام الخاص: (ووجه الاهتمام: أنهم أولى الناس بقبول نصحه وتعزيز جانبه، ولئلا يسبق إلى أذهانهم أن ما يلقيه الرسول من الغلظة في الإنذار وأهوال الوعيد لا يقع عليهم لأنهم قرابة هذا المنذر وخاصته). (التحرير والتنوير 9/255-256).

10- جعل الله القلوب تهفو إليها:

المقصود بالمثابة: هو الانجذاب والرّجوع لبيت الله الحرام، مرة بعد مرة.

العبادة غذاء الفؤاد، ومكة بلدة عبادة، فكيف لا تنجذب إليها الأفئدة، وكيف لا يشتاق إلى مكة الفؤاد، وتحن إليها القلوب؛ ومكة أرض لإقامة ذكر الله {ألا بذكر الله تطمئن القلوب} [الرعد].

وليتحقق هذا المقصد العظيم، وهو: أن تكون مكةُ بلدةَ عبادة؛ جعل الله النفوسَ تهفو لأكبر تجمُّع للعبادة، ألا وهو الحجّ، وإلى البيت يتجّه المسلمون في صلاتهم على اختلاف أجناسهم وألوانهم وأماكنهم.

من أهم أسباب المثابة:

أ- هي استجابة للنداء الرباني

فهو نداء عبادة، لتلك البقعة الطاهرة المشرفة.

ب- استجابة الله تعالى لدعوة الخليل إبراهيم عليه السلام حين دعا

، واستجاب الله دعاءه.

من لطائف القرآن: قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير، لو قال: (أفئدة الناس) لازدحم عليه فارس والروم، واليهود والنصارى، والناس كلهم، ولكن قال: (من الناس)، فاختُصَّ به المسلمون. تفسير القرآن العظيم (2/ 541).

فليس أحدٌ من أهل الإسلام إلَّا وهو يحنّ إلى رؤية الكعبة والطّواف والحجّ، والناس يقصدونها من سائر الجهات والأقطار. تفسير القرآن العظيم (3/ 226).

11- جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس:

من عظمة هذا البيت ومكانته عند الله أن جعل وجوده سببًا لقيام أمر الدنيا والآخرة،

قيام أمر الآخرة لا يكون إلا بالتوحيد، والبيت أعظم مكان للتوحيد والعبادة، ومن أعظم العبادات التي تذكر بالتوحيد شعيرة الحج، أما قيام أمر الدنيا فالناس كانوا يأتون إلى بيت الله الحرام ويجبي إليه من الثمرات والأرزاق ويذبح فيه من الهدي لفقرائه، وكانوا يأمنون فيه من النهب والغارة فلا يتعرض لهم أحد في الحرم،

فيتحقق فيه من مصالح الدنيا ما تقوم به أحوالهم.

وقوام حياة الناس هي الأمن والرزق والعبادة، فينتظم بقيامها صلاح الدنيا والآخرة، والكعبة تحمي هذه الضروريات، وتوفر أسبابها، وتحمي حياضها، لتقوم حياة الناس بها،  فمكة يتحقق فيها أسباب الأمن الدنيوي والأخروي.

12- جعل الله مكة دار الأمن والطمأنينة :

حين نتحدَّث عن الأمن في مكة البلد الحرام، نتحدث عن أمن هيأه الله لهذه البلدة، وعن أمن مطلوب من الناس تحقيقه. ونصوص الأمن في مكة الواردة في الكتاب والسنة كثيرة، والله تعالى أقسم بهذا البلد الأمين؛ فدل على عظم الأمن في مكة. ولعل الحكمة من ذلك – والله أعلم- أن المكان الذي أُعد للعبادة وتنوعها، وكثرة الحسنات وبركتها، ينبغي أن يزال عنها ما يشوبها من الفوضى والضوضاء، واختلال الأمن، بجميع صوره، حتى يقوم الناس بمقصود ربهم وهم في حال من الطمأنينة والسكون، وانظر كيف أن الله امتن على قريش بنعمة الأمن ليقوموا بعبادته

ويمكن تقسيم الكلام عن الأمن في مكة إلى قسمين رئيسين:

الأول: أمنٌ من الله (قدري).

وذلك أنه سبحانه أمَّنَها من أن يغزوها غازٍ من الكفار بعد فتح مكة، وأن يدخلها الدجَّال، وأمَّن أهلها من الجوع؛ فجعل الثمراتِ تُجبى إليها من كل مكان، وجُعل ماءُ زمزمَ طعامَ طُعم.

ففيه إشارة: إلى حفظ الأبدان والإيمان.

وقد أودع الله في مكة معالم الدين؛ الكعبة قبلة المسلمين، ومقام إبراهيم، والصفا والمروة، وزمزم، وغير ذلك من شعائر الله، فكلها آمنة بتأمين الله لمكة إلى يوم القيامة حين يشاء الله نهاية الحياة لبني آدم على ظهر الأرض.

والثاني: أمنٌ من الناس (شرعي).

وذلك أن الله تبارك وتعالى أمر أهلها والوافدين إليها أن يحققوا جانبًا من الأمن، وهو أن يؤَمِّن بعضهم بعضًا، ويؤمِّنوا ما فيها من شجرٍ وصيدٍ ومالٍ في أحكام شرعية أخرى، بتطبيقها تغدو مكة آية في الأمن.

أثر انعدام الأمن في مكة وتوقف الحج على العالم:

إن تحقق الأمن بمكة معناه أن الله تبارك وتعالى لم يأذن بعدُ بخراب هذه الأرض، فأهل مكة في أمنٍ وأمان، والأمة الإسلامية بأمن وأمان، بل العالم بأسره في أمان من أن يحيق به دمارٌ عام، أو خرابٌ شامل.

ونهاية التاريخ البشري على هذه الأرض يبدأ باختلال الأمن بمكة، وكيف يختل الأمن بمكة؟ إذا استحلّ أهله حرمته، وانتكهوا أمنه.

فإذا انتهكت حرمة البيت الحرام وأمنه من قبل أهله، أذن الله تبارك وتعالى بهلاكهم، وهلاك العرب من حولهم.

فإذا اتسعت هذه الدائرة الصغيرة، وهلك أهل الجزيرة العربية؛ اتسعت دائرة انعدام الأمن لتشمل الأمة الإسلامية كلها.

فإذا هلكت هذه الأمة المسلمة، فلم يعد للبيت الحرام قاصد، ولا عليه وافد تعظيمًا وإجلالاً لحرمته؛ عمّ البلاء العالم كله، وأذن الله تبارك وتعالى بهلاك الأرض وقيام الساعة.

فعبادة الحج بمكة تدفع السوء عن الناس في العالم كلِّه، ولا يزال في الأرض دينٌ ما حُجَّت الكعبة، فالحج عمود العالم الذي عليه بناؤه، لو ترك الناس كلهم الحجَّ سنةً واحدةً لخرّت السماء على الأرض، وقامت القيامة، فدين الناس باقٍ ما بقيت الكعبة.

فتأمّل وتدبّر أيّ أمانٍ للعالم كله قدّره الله تعالى في أمن مكة، وبقاء بيته معظَّمًا.

تنبيه: هناك دراسة أعدها باحثون في معهد خادم الحرمين الشريفين لأبحاث الحج والعمرة في عام 1441هـ خلصت إلى أنه لم يثبت تاريخيًّا أن الحج قد توقف كليًّا في فترة من الفترات، وإنما هو توقف جزئي لأهل ناحية معينة أو بلدة معينة؛ إما لعوارض صحية أو أمنية.